محمدٌ صلى الله عليه وسلم
خيرُ الخلقِ وليس أولهم
شاءت حكمته جل في علاه أن يفضّل بعض النبيين على بعض فقال تعالى " وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۗ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَىٰ بَعْضٍ ۖ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا " .
وقال تعالى " تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ ۘ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ ۖ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ " .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " أنا سيدُ ولد آدم يوم القيامة، وأول من ينشق عنه القبر ، وأول شافع ، وأول مُشَفَّع " رواه مسلم .
فليس أدل من هذا الحديث على أفضلية سيدنا محمد صلوات الله وسلامه عليه على كل الخلق ، فبنو آدم كما هو راسخ لدى جماعة أهل السنة أفضل من الملائكة ، وهذا ما أقر به الإمام النووي .
كما ذكر الصحابي الجليل عبد الله بن سلام رضي الله عنه " أن محمدًا صلى الله عليه وسلم أكرم الخلق على الله ، ولما قيل له فأين الملائكة ، قال إنما الملائكة خلق كخلق السموات والأرض والجبال والريح وسائر الخلائق ، وإن أكرم الخلائق على الله تعالى أبو القاسم صلى الله عليه وسلم.
وعلى ذات النهج سلك وذهب ابن تيمية إلى أفضليته صلى الله عليه وسلم على الخلق أجمعين قائلاً " وما علمت عن أحد من الصحابة خالف ذلك ، وأن هذا هو المشهور عند أهل السنة والجماعة والمنتسبين إلى الأئمة الأربعة وغيرهم ".
وقال ابن عليش " أن المسلمون قد أجمعوا على أفضليته صلى الله عليه وسلم على كل المخلوقات من إنسٍ وجنٍّ وملائكة ، وصار ذلك من المعلوم بالضرورة حتى لدى العوام " .
محمد صلى الله عليه وسلم ليس أول الخلق
فمبلغُ العلمِ أنه بشرٌ ، وأنه خيرُ خلقِ اللهِ كلهمُ .
ورسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل الخلق والأنبياء والمرسلين منزلةً ومكانةً وخُلقًا ، وإن لم يكن أولهم خَلقًا ، فمن المقطوع به علما أنه صلوات الله وسلامه عليه ليس أول ما خلق اللهُ جل في علاه ، كما أن الأسبقية في الخلق ليست بسببٍ للأفضلية ، لكنها أفضليةُ الله وتفضيله لمن يشاء على من يشاء ، فالله سبحانه وتعالى فضل بني آدم على الملائكة وغيرهم من الخلائق وأمر الملائكة بالسجود لآدم ولم يكن لأسبقية خلقهم على خلق آدم من حسبان في تقرير الأفضلية .
وإذ لم يرد على عهدة أي من علماء السنة سلفًا أو خلفًا من قال بأسبقية خلقه صلى الله عليه وسلم على سائر الخلائق .
فما من شك أن أول خلق الله من البشر هو آدم عليه وعلى رسولنا الكريم صلوات الله وسلامه عليهما مصداقًا لقوله تعالى " يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا " .
وجاء في صحيح البخاري عن عمران بن حصين رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " كان الله ولم يكن شيءٌ قبله، وكان عرشه على الماء ، وكتب في الذكر كل شيء ، ثم خلق السماوات والأرض " .
كما روى أبو داود عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " إن أول ما خلَق الله القلم، فقال له: اكتب، قال: ربِّ ، وماذا أكتب ؟ قال اكتب مقاديرَ كل شيء حتى تقوم الساعة " . ( صححه الألباني ) .
وعليه ومما سبق من أدلة شرعية من كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم يستبين أن أول ما خلق الله تعالى هو الماء والعرش ، ثم القلم ، ثم السموات والأرض ، على خلافٍ بين العلماء حول أسبقية الخلق بين العرش والماء ، بيد أنهم اتفقوا جميعًا على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس بأول الخلق كما يظن البعض ويدعي أحاديثًا هي في الأصل موضوعة أو ضعيفة فيرددونها دون علم ، ومنها " أول ما خلق الله تعالى نوري " ، وفي لفظ آخر " يا جابر إن الله خلق قبل الأشياء نور نبيك محمد صلى الله عليه وسلم من نوره فجعل ذلك النور يدور بالقدرة حيث شاء الله " ، وفي لفظ ثالث " أول ما خلق الله نور نبيك يا جابر " ، وقد أقر علماء الأحاديث أن هذه الأحاديث موضوعة أو ضعيفة .
هل خُلق رسول الله صلّى الله عليه وسلم من نور
وممن خاض بحثًا في الأمر الكثير من العلماء وقد أثبتوا بالأدلة والبراهين الشرعية من الكتاب والسنة النبوية ما قطع بعدم صحة هذا الادعاء ولعل من أبرزهم الشيخ الألباني وما أورده في السلسلة الصحيحة مسترشدًا بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم " خُلقت الملائكة من نور " فدلل به على أن الملائكة هم وحدهم من خُلقوا من نور دون سيدنا آدم وبنيه من سائر البشر وبالتالي بطلان ما انتشر على الألسن من حديث ذاع وطغت شهرته ألا وهو حديث " أول ما خلق الله نور نبيك يا جابر " وغيره من الأحاديث التي تدعي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خُلق من نور .
ومما يعضد رأي الألباني ما ورد في الحديث الشريف عن عائشة رضي اللّه عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " خُلِقَت الْمَلَائِكَةُ مِنْ نُور، وَخُلِقَ الْجَانُّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَار، وَخُلِقَ آدَمُ مِمَّا وُصِفَ لَكُمْ " أي خُلِقَ مِن طينٍ مِن تُرابٍ مِن صَلصالٍ كالفخَّارِ ( رواه مسلم في صحيحه ) .
كما جاء في كتاب ( الحاوي للفتاوي ) للعلامة الحافظ السيوطي في شرحه للحديث " يا جابر، إن الله تعالى خلق قبل الأشياء نور نبيك من نوره " وذكر أنه لا إسناد له يُعتمد عليه .
وأما وصفه صلى الله عليه وسلم في القرآن الكريم بالنور في قوله تعالى " يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ ۚ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ ، يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ " فلا يعدو أن يكون أمرًا معنويًا أي أنه نور الهداية الذي جاء به الرسول صلوات الله وسلامه عليه فأضاء الله به الارض شرقها وغربها بنور الإسلام والمعرفة الحقة بالله وموجبات ألوهيته وعبادته ، وهذا ما ذهب إليه الطبري .
كما ذهب البغوي إلى أن النور في الآية يعني سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقيل أيضا يعني الإسلام .
تعظيمه صلى الله عليه وسلم دون غلو
قال صلى الله عليه وسلم" لا تُطْرُوِني - أي لا تبالغوا في مدحي - كما أطرتِ النصارى ابن مريم، فإنما أنا عبده ، فقولوا عبد الله ورسوله " . رواه البخاري ، وقال صلى الله عليه وسلم " يا أيُّها الناسُ لا تَرْفَعُونِي فَوْقَ قدْري ، فإنَّ الله اتَّخذني عبداً قبل أنْ يَتَّخِذَني نبيًّا " . رواه الطبراني وصححه الألباني .
وهكذا نهانا صلى الله عليه وسلم عن الغلو في محبته وتعظيمه ، فلا ينبغي أن يُرفع صفةً أو منزلةً إلى منزلة الخالق جل في علاه ، أو يطغى الاعتقاد بصفات وخصائص له لا تنبغي إلا لله وحده ، وتلك عقيدة أهل السنة في محبته وتعظيمه صلوات الله وسلامه عليه .
فاللهم صل وسلم وزد وبارك على سيدنا وحبيبنا وخليلنا وعظيمنا وشفيعنا محمدا وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا .