الإعجاز العلمي في قوله تعالى
" مَرَجَ البحرين يلتقيان "
إنه كتابُ الله المتعبد بتلاوته ، لا يأتيه الباطل من
بين يديه ولا من خلفه ، تنزيلٌ من حكيمٍ عليم ، لا تنقطع آياته إعجازاً ، ولا ينضب
معينها مددا.
ومن عجيبِ آياته قوله تعالى " مَرَجَ البحرين يلتقيان ،
بينهما برزخٌ لا يبغيان " .
وقوله تعالى " أمّن جعل الأرض قرارا ، وجعل خلالها
أنهارا ، وجعل لها رواسي ، وجعل بين البحرين حاجزاً ، ءإلهٌ مع الله ، بل أكثرهم
لا يعلمون " .
وقوله تعالى " وهو الذي مَرَجَ البحرين هذا عذبٌ فرات
، وهذا ملحٌ أُجاج ، وجعل بينهما برزخاً وحِجراً محجورا " .
وقد جاءت الآيات لتصف ذلك الفاصل بين البحرين تارة بالبرزخ وتارة بالحاجز ، وثالثةً بالحجر
المحجور أي الفاصل بحيث لا يصل أحدهما إلى الآخر .
ما هو البرزخ
البرزخ لغةً
يعني الحاجز بين الشيئين ، والمانع من اختلاطهما أو امتزاجهما ، والبرزخ بين البحرين
عذبه ومِلحه آيةٌ من آيات الله في خلقه ، يتماسا فيها البحران العذب منه والمالح دون
أن يمتزجا أو يختلطا ، وهذه الظاهرة العلمية والتي أخبرنا بها القرآن منذ أكثر من
ألف وأربعمائة سنة ، لم يكتشفها العلماء إلا في أواخر القرن التاسع عشر ، ومما يلفت النظر
أن وجه الإعجاز لايقتصر فقط على التماس والإلتقاء بين البحرين ، وإنما يتجلى
كإعجاز أعظم في عدم اختلاطهما وامتزاجهما .
وقد بذل العلم والعلماء الجيولوجيون خاصةً جهداً جهيدا للوقوف على تفسيرٍ لهذه الظاهرة
العجيبة ، وانتهوا إلى أن الفارق بين الماء العذب في تركيزه عن الماء المالح يولد
ذلك الحاجز بينهم دونما اختلال ، وهذا هو قانون عدم اختلاط جزيئات مادة في وسط غير
مناسب لها .
بيد أن هذه الظاهرة لم تزل مُحيرةً وغامضة برغم الأبحاث
العلمية الكثيرة التي أجريت بشأنها .
ماهو الماء الكريم
ومن عجيب هذه الظاهرة أن الكائنات الحية في كل من
الماءين يحتفظ بخصائصه دون ثمة خلل ، وأعجب منه تلكم المنطقة التي تتوسط البحرين
أو ما يسمى بالماء الآسن أو الماء الكريم ، فقد رصد العلماء لها هبوطا تدريجياً لتركيز
الملح عنه في البحرين ، وتبين أن لها كائنات حية تختلف فى خصائصها وصفاتها عن كائنات البحرين .
الماءُ العذب تحت المحيط
وجهٌ ومعنى آخر للبرزخ
فقد اكتشف العلماء بحراً عظيماً من الماء العذب تحت المحيط
يُعتقد أنه تكون قبل آلاف السنين نتيجة ذوبان الجليد وانحسار مياهه تحت الطبقة التي
تكونت من الصخور الرسوبية في تبعات إنتهاء
العصر الجليدي ، ويتصف هذا الماء بأنه نقي نقاوة عالية جدا ، ويُعتقد بأنه يوجد في
أماكن متفرقة من العالم تحت البحار .
فإذا ما عدنا لأحد معاني البرزخ نجده يشير إلى الحاجز اليابس
من الأرض ، ومما يثير العجب أن الآية ذكرت مثل هذا الحاجز في قوله تعالى " وجعل
بينهما برزخاً وحِجرا محجورا " والحِجر كما ورد في سورة الحِجر يعني الصخر ،
وعليه يكون معنى البرزخ في هذه الصورة يعني الحاجز الصخري بين الماء العذب تحت الماء
المالح في المحيط الذي يعلوه .
برزخٌ بين الدنيا والآخرة
أورد القرآن الكريم كلمة برزخ في آية ما أروعها وصفت فيه
ما بين الدنيا والآخرة من عالمٍ يمثل حاجزاً وفاصلاً بينهما ، وهي تلك الحقبة بين
الوفاة والبعث يوم القيامة فقال سبحانه وتعالى " حتى إذا جاء أحدهم الموت قال
رب ارجعون ، لعلي أعمل صالحا فيما تركت ، كلا إنها كلمة هو قائلها ومن ورائهم برزخ
إلى يوم يُبعثون " .
فحياة البرزخ عالمٌ ومرحلةٌ وسط بين حياة الدنيا وحياة الآخرة
تفصل بينهما ، وهي تبدأ بموت الإنسان أي من لحظة قبض روحه ونزوله القبر وحتى قيام
ساعته يوم القيامة ، فإن كان عمله في دنياه خيراً لقي في حياة برزخه خيرا ، وإن كان شراً فشر ، وفي هذا يصف القرآن الكريم آل فرعون وما يلقونه في
حياة البرزخ من عذاب فيقول تعالى " النار يُعرضون عليها غُدواً وعشية ، ويوم تقوم
الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب " .
بينما وعلى النقيض تصف آيات القرآن الكريم حال الصالحين
في حياة البرزخ بالفرح بما ينتظرهم من فضل ونعيم إذ يقول الله تعالى في حق الشهداء
" ولا تحسبن الذين قُتلوا في سبيل الله أمواتا ، بل أحياء عند ربهم يُرزقون ،
فرحين بما آتاهم الله من فضله، ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ، ألا خوف
عليهم ولا هم يحزنون " .
وفي هذا السياق والمعنى ورد الكثير من الأحاديث النبوية الشريفة ما يعزز ويؤكد حياة البرزخ مثل ما كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم حين دَخَلَ مُصَلاَّهُ فَرَأَى نَاسًا كَأَنَّهُمْ يَكْتَشِرُونَ - أي يضحكون - قَالَ : ( أَمَا إِنَّكُمْ لَوْ أَكْثَرْتُمْ ذِكْرَ هَاذِمِ اللَّذَّاتِ : لَشَغَلَكُمْ عَمَّا أَرَى ، فَأَكْثِرُوا مِنْ ذِكْرِ هَاذِمِ اللَّذَّاتِ ؛ الْمَوْتِ !! فَإِنَّهُ لَمْ يَأْتِ عَلَى القَبْرِ يَوْمٌ إِلاَّ تَكَلَّمَ فِيهِ فَيَقُولُ : أَنَا بَيْتُ الغُرْبَةِ ، وَأَنَا بَيْتُ الوَحْدَةِ ، وَأَنَا بَيْتُ التُّرَابِ ، وَأَنَا بَيْتُ الدُّودِ ، فَإِذَا دُفِنَ العَبْدُ الْمُؤْمِنُ قَالَ لَهُ القَبْرُ: مَرْحَبًا وَأَهْلاً ، أَمَا إِنْ كُنْتَ لأَحَبَّ مَنْ يَمْشِي عَلَى ظَهْرِي إِلَيَّ ، فَإِذْ وُلِّيتُكَ اليَوْمَ ، وَصِرْتَ إِلَيَّ : فَسَتَرَى صَنِيعِيَ بِكَ ، قَالَ: فَيَتَّسِعُ لَهُ مَدَّ بَصَرِهِ ، وَيُفْتَحُ لَهُ بَابٌ إِلَى الجَنَّةِ ، وَإِذَا دُفِنَ العَبْدُ الفَاجِرُ ، أَوِ الكَافِرُ ، قَالَ لَهُ القَبْرُ: لاَ مَرْحَبًا وَلاَ أَهْلاً ، أَمَا إِنْ كُنْتَ لأَبْغَضَ مَنْ يَمْشِي عَلَى ظَهْرِي إِلَيَّ ، فَإِذْ وُلِّيتُكَ اليَوْمَ ، وَصِرْتَ إِلَيَّ ، فَسَتَرَى صَنِيعِيَ بِكَ !! قَالَ: فَيَلْتَئِمُ عَلَيْهِ ، حَتَّى تَلْتَقِيَ عَلَيْهِ وَتَخْتَلِفَ أَضْلاَعُهُ " .
.
واللهَ نسألُ أن يكتب لنا ولكم حسن العمل والخاتمة ،
والثبات بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة .
وصّل اللهم وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
تسليما كثيرا .