الإعجاز القرآني في تقديم السمع على البصر
لم يأت ذكر السمع سابقًا ومتقدمًا على البصر في القرآن عبثاً ، أو سرداً مجرداً من حكمةٍ تجلت وسطعت بعدما تكشفت به علوم التشريح الحديثة والتي أثبتت منطقية وبراهين تجعل من هذا التقديم القرآني وجوبيًا ومُبَررًا ، وله من الحيثيات والأسانيد العلمية ما يجعله مُبهرًا بل ومُعجزًا ودالًا على كونه من عند الله ولا ريب .
ولنتأمل العديد من تلكم الآيات التي ورد بها ذكر السمع مُقدمًا على البصر مثل قوله تعالى "وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ".
وقوله تعالى " وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤولًا " .
وقوله تعالى " إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا " .
وجه الإعجاز العلمي في تقديم السمع على البصر
فقد ثبت علميًا أسبقية تكوين الأذن أداة السمع عند الجنين في الرحم قبل العين أداة البصر ، إذ تكتمل الأذن الداخلية وتنضج وتصبح قادرة على السمع في الشهر الخامس ، بينما لا تفتح العين ولا تتم طبقتها الحساسة للضوء إلا في الشهر السابع .
وبينما يصبح السمع بعد أيام قليلة حاداً جدا ، نجد حاسة البصر عند الولادة ضعيفة جداً وتكاد تكون معدومة وتظل مشوشة وغير مميزة للأشياء ، ولا يتمكن البصر من إدراك بعض الأشياء ومعرفتها إلا في الشهر الثالث أو الرابع مثل معرفة الوليد لأمه وتتبع حركاتها .
وقد اكتشف العلماء أن الترتيب المكاني لمركزي السمع والبصر في المخ جاء متفقًا مع ترتيب ذكرهما في القرآن بأسبقية السمع على البصر ليضيف وجهًا آخرًا للإعجاز في هذا الصدد .
فضائل السمع على البصر
مع التسليم بعظيم نعمة البصر وقدرها ، وأن الكثير يراها أهمُ شأنًا وقدرًا من السمع ، لكن حسبُك أن تعلم أن فقد السمع يترتب عليه في زمن ليس بكثير فقد القدرة على الكلام فيصبح الأصم أبكما بالضرورة والتبعية للصمم إذ أن اللسان يروي ما تسمعه الأذن ، وعليه يجد الأصم الأبكم نفسه حبيسا معزولاً عن العالم من حوله فاقداً لأهم أدوات التواصل معه وهما آلتي السمع والكلام ، وعلى العكس فإن فقد البصرلا يُفقد من كُفّ بصره قدرته على التواصل مع العالم ، إذ تبقيه حاستي السمع والكلام موصولا بالعالم ، فتضحى حياته سويةً غير مستحيلة بفقده للبصر .
ومن لطائف ما يمكن استنباطه من أفضلية للسمع على البصر ما أوردته الآية الكريمة في قوله تعالى " وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُواْ لاَ يَعْقِلُونَ وَمِنهُم مَّن يَنظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُواْ لاَ يُبْصِرُونَ " إذ قرنت الآية بين فقد السمع وذهاب العقل ، بينما قصرت ذهاب النظر أو فقدان العين على ذهاب البصر والرؤية فقط دون ما ذهاب لعقل أو بصيرة ، فما يتيحه ويوفره السمع للإنسان من خيارات وقدرات ومجالات أرحب وأشمل مما يتيحه البصر ، وليس أدل على ذلك مما نراه في واقعنا من أمثلة كثيرة لعلماء وأفذاذ من مكفوفي البصر في مجالات شتى كالآداب والفنون وبلوغ أعلى الدرجات العلمية ، بينما لا نجد قط مثلاً لهم فيمن فقدوا السمع ، فالسمع هو أداة العقل لتحصيل المعارف والعلوم والمهارات .
والسمع مطية الوحي ووسيلته لبلوغ أسمى المعارف والعلوم والرسالات الإلهية إلى الرسل والبشرية ، فلا ريب أن السمع أكمل وأبلغ وصولا من البصر لتحقيق الرسالة وإعلانها على الوجه الأكمل والأصوب ، ومن هنا كان السمع أنفع للدين والإيمان من البصر .
السمع لا يسكن ولا ينام
إذا ما أراد الإنسان أن يخلد إلى النوم ، سكنت كل حواسه وأعضائه بما فيها البصر إلا حاسة السمع ، إذ يظل السمع عاملًا ومستعدًا لمهامه ، ولو أن أحدًا غطّ في نومه وأتى آخر فاصطنع ضجيجًا بجواره ، لفزع النائم وهبّ من نومه صعقا ، وهذا ما يفسر وصف الآية الكريمة بشأن أهل الكهف حين اقتضى الأمر أن يضرب الله على آذانهم في الكهف سنين عددا لتعطيل حاسة السمع بالكلية عن أداء مهمتها الإدراكية وهم نيام .
وعلى النقيض من السمع يفقد البصر في حالة النوم حسيته ، فلا ينتبه مثلا لأية إشارات أو تلويح بالقرب منه ، فكان للسمع الذي لا ينام مقامًا أرقى وأعلى من البصر الذي ينام .
ولما كانت حاسة السمع لا يمنعها عن أداء مهمتها ليلًا أو نهارًا ثمة مانع ، يظل البصر قاصرا عن أداء مهامه في الرؤية ما لم يتوفر له الضوء اللازم ، فإن السمع يسبق البصر في هذا المقام قدرًا وفضلا .
الأذن للسمع والإتزان
وقف العلم حديثًا على كشفٍ لمهمة أخرى للأذن غاية في الأهمية ألا وهي الأتزان ، إذ تحتوي الأذن على جهاز دقيق جدًا بجوار القوقعة في الأذن الداخلية يحتوي على ثلاث قنوات متعامدة هلالية الشكل يتحقق بهن إتزان الإنسان ، فإذا ما اختل هذا الجهاز إختل إتزان المريض فصار كما لو كان مخمورًا يترنح يمنة ويسرة ، وهذه فضيلة أخرى للسمع والأذن يتقدم بها ويتفوق على البصر الذي يبصر فقط بينما الأذن تسمع وتحقق الإتزان معا للإنسان .
فسبحان الله الذي خلق فسوى ، وصور فأبدع ، وتباركت أسمائه وآلائه وصدق فقال " وفي أنفسكم أفلا تبصرون " .
وصل اللهم وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا .