بيتُ العنكبوت بيانٌ وإعجازٌ قرآنى
بيتُ العنكبوت مضربَ المثل لأوهنِ البيوت وأضعفها فى الطبيعة ، وهذا الوهن
ليس بقاصرٍ على بنائها وحسب ، بل هو ممتدٌ لحياةِ العنكبوت الإجتماعية .
قال الله تعالى " مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ
أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ
الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ".
ما أعظمها من آية تحوى من الإعجاز ما هو كافٍ لمن كان له عقلٌ أو قلبٌ منيب
، وإن أوجه هذا الإعجاز تبدو جليةً فى كل كلمة فيها وضعت فى موضعها فى تناسقٍ
واتساقٍ عجيبين ، ودقة بالغة لمدلولها وصدق جل من قال " قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإنْسُ وَالْجِنُّ
عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ
كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا " .
وجه الإعجاز فى قوله تعالى
" اتخذت بيتا "
إذ يُطلق على الأنثى لفظ "
العنكبوت " ، بينما يُطلق على الذكر لفظ " العنكب " ، فإذا ما علمنا أن أنثى
العنكبوت -وعلى خلاف المعهود فى عالم الحيوان من تولى أو مشاركة الذكر فى بناء
البيوت والأعشاش – هى التى تتولى وحدها دون الذكر بناء البيت ، علمنا الحكمة من
ورود قوله تعالى " اتخذت " وليس اتخذ ، وهذه الحقيقة البيولوجية لم تكن
معلومة حتى وقت قريب .
دقة الوصف بوهن بيت العنكبوت
أولا : الوهن المادى
إذ يقوم البناء على خيوط حريرية متشابكة لا يكتب لها البقاء والدوام إلا
لليلة واحدة ، ويغدو بعدها البيت غير صالح لصيد الفرائس لصيرورته فاقداً لمادته
اللاصقة حيث يجف ويتمزق ، ناهيكم عن كون هذه الخيوط لا تغنى ولا تسمن من جوع ، إذ
لا توفر أية حماية للعنكبوت ، فهى لا تقى من حرٍ أو بردٍ أو ريح ، وتكون عرضةً
دائماً لهجوم أعدائها من طيور وغيرها تتغذى عليها .
ومن أعجب وأغرب بيوت العنكبوت وَهَناً وضعفا ، بيت عنكبوت الماء والذى يبنى
وينسج بيته فوق سطح الماء قاضياً حياته تحت سطح الماء جامعاً لفقاعات الهواء ليملأ
بها بيته والذى ما يلبث أن يزول إذا ما تعرض لأى تأثير .
ثانيا : الوهن الإجتماعى
على خلاف ما يتمتع به الكثير من مجتمعات الحشرات من تنظيم عجيب وتعاون
وصفات الآثرة والتضحية والبذل كمجتمع النمل والنحل والجراد ، نجد العنكبوت يعيش
حياة فردية خالية تماماً من كل ما يمت للوصف بالإجتماعية بصلة حتى أن بعض أنواعها
مثل التى تسمى بالأرملة السوداء تشرع فى افتراس وأكل زوجها عقب إتمام التلقيح إن
لم يسارع بالفرار حيث تتخذ من لحمه غذاءً طيلة فترة حضانة البيض ، ثم تتغذى
اليرقات على أضعفها ، ثم تتغذى الصغار بعد أن يشتد عودها على الأم حيث تضعف ، وهذا
المسلك يتفرد به العنكبوت فى عوالم الكائنات الحية ويستأثر به وحده ، فيا له من
وهن أسرى ما من مثيل له .
وصفُ البيتِ دون الخيطِ بالوهن
يصفُ العلماء خيط العنكبوت بأنه أصلب من الفولاذ بخمس مرات على الأقل على
الرغم من كونه أدق من شعر الإنسان بعشر مرات ، ولأنه عاجزٌ عن صنع خيط سميك يصبح
قابلا للتمزق بسهولة ، ومن هنا يأتى وصف القرآن لبيت العنكبوت بالوهن دون الخيط
دقيقاً معجزا .
وأخيرا فإن المتأمل والمدقق فى وصف الآية الكريمة قليلة البناء من حيث
الكلمات عظيمة الدلالات من حيث المعانى والعظات ، ليجد أن تنطبق انطباقا عجيبا على
الكثير من مجتمعات الكفر والنكران لشرعة الله وحكمه ، وإلا فكيف ترون أمما تتراءى
وتتفاخر بقواها وجبروتها كخيوط العنكبوت بقوتها وصلابتها ، بينما بيتها وكيانها
الأسرى والاجتماعى كبيت العنكبوت فى هوانه وضعفه يكتنفه الضياع فى أخلاق وقيم
تقترب من الهمجية والشذوذ وتُهرع به إلى سحيق العدم والفناء .
فسبحان من هذا كلامه وقوله الحق تبارك وجل فى علاه .
وصل اللهم وسلم على سيد الخلق والأنام وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا .